فصل: الفصل الثالث عشر في الاحتكار

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة

عن خلق الأشراف والملوك وذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء ولا بد فيه من المكايسة ضرورة‏.‏ فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي أعني خلق المكايسة بعيدة عن المروءة التي تتخلن بها الملوك والأشراف‏.‏ وأما إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان رداً وقبولاً فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف‏.‏ ولذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما يكسب من هذا الخلق‏.‏ وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه لشرف نفسه وكرم جلاله إلا أنه في النادر بين الوجود‏.‏ والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه وهو رب الأولين والآخرين‏.‏ في نقل التاجر للسلع التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعم الحاجة إليه من الغني والفقير والسلطان والسوقة إذ في ذلك نفاق سلعته‏.‏ وأما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ بأعواز الشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه وتفسد أرباحه‏.‏ وكذلك إذا نقل السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها فإن الغالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة وحاشية الدولة وهم الأقل‏.‏ وإنما يكون الناس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كل صنف فليتحر ذلك جهده ففيه نفاق سلعته أو كسادها‏.‏ وكذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة أو شدة الخطر في الطرقات يكون أكثر فائدة للتجار وأعظم أرباحاً وأكفل بحوالة الأسواق‏.‏ لأن السلع المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها فيقل حاملوها ويعز وجودها‏.‏ وإذا قلت وعزت غلت أثمانها‏.‏ وأما إذا كان البلد قريب المسافة والطريق سابل بالأمن فإنه حينئذ يكثر ناقلوها فتكثر وترخص أثمانها‏.‏ ولهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالاً لبعد طريقهم ومشقته واعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف والعطش‏.‏ لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة يهتدي إليها أدلاء الركبان فلا يرتكب خطر هذا الطريق وبعده إلا الأقل من الناس‏.‏ فتجد سلع بلاد السودان قلية لدينا فتختض بالغلاء وكذلك سلعنا لديهم‏.‏ فتعظم بضائع التجار من تناقلها وويسرع إليهم والثروة من أجل ذلك‏.‏ وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشقة‏.‏ وأما المترددون في الأفق الواحد ما بين أمصاره وبلدانه ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة لكثرة السلع وكثرة ناقليها‏.‏ و ‏"‏ الله هو الرزاق ذو القوة المتين ‏"‏‏.‏

  الفصل الثالث عشر في الاحتكار

ومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم‏.‏ وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران‏.‏ وسببه والله أعلم أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطراراً فتبقى النفوس متعلقة به‏.‏ وفي تعلق النفوس بمالها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً‏.‏ ولعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل‏.‏ وهذا وإن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به لإعطائه ضرورة من غير سعة في العذر فهو كالمكره‏.‏ وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعمات لا إضطراراً للناس إليها وإنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلا باختيار وحرص‏.‏ ولا يبقى لهم تعلق بما أعطوه‏.‏ فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النفسانية على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وسمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب‏.‏ أخبرني شيخنا أبو عبد الله الآبلي قال‏:‏ حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد وهو الفقيه أبو الحسن المليلي وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال فأطرق ملياً ثم قال لهم‏:‏ من مكس الخمر‏.‏ فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا وسألوه عن حكمة ذلك‏.‏ فقال‏:‏ إذا كانت الجبايات كلها حراماً فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه‏.‏ والخمر قل أن يبذل فيها أحد ماله إلا وهو طرب مسرور بوجدانه غير أسف عليه ولا متعلقة به نفسه‏.‏ وهذه ملاحظة غريبة‏.‏ والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكن الصدور‏.‏

  الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص

وذلك أن الكسب والمعاش كما قدمناه إنما هو بالصنائع أو التجارة‏.‏ والتجارة هي شراء البضائع والسلع وادخارها‏.‏ يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة في أثمانها ويسمى ربحاً‏.‏ ويحصل منه الكسب والمعاش للمحترفين بالتجارة دائماً‏.‏ فإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة ولم يحصل للتاجرحوالة الأسواق فيه فسد الربح والنماء بطول تلك المدة وكسدت سوق ذلك الصنف ولم يحصل التاجر إلا على العناد فقعد التجارعن السعي فيها وفسدت رؤوس أموالهم‏.‏ واعتبر ذلك أولاً بالزرع فإنه إذا استديم رخصه كيف تفسد أحوال المحترفين به بسائر أطواره من الفلح والزراعة لقلة الربح فيه ونزارته أو فقده‏.‏ فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قلة ويعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم وتفسد أحوالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة‏.‏ ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضاً بالطحن والخبز وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرف من لدن زراعته إلى صيرورته مأكولاً‏.‏ وكذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السلطان عند أهل الفلح زرعاً فإنها تقل جبايتهم من ذلك ويعجزون عن إقامة الجندية التي هم بسببها ويرتزقون من السلطان عليها ويقطع عنهم الرزق فتفسد أحوالهم‏.‏ وكذا إذا استديم الرخص في العسل والسكر فسد جميع ما يتعلق به وقعد المحترفون به عن التجارة فيه‏.‏ وكذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرخص أيضاً‏.‏ فإذا الرخص المفرط مجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص وكذا الغلاء المفرط أيضاً‏.‏ وربما يكون في النادر سبباً لنماء المال بسبب احتكاره وعظم فائدته‏.‏ وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق وعلم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران‏.‏ وإنما يحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه واضطرار الناس إلى الأقوات من بين الغني والفقير‏.‏ والعالة من الخلق هم الأكثر في العمران فيعم الرفق بذلك ويرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاص‏.‏ و ‏"‏ الله هو الرزاق ذو القوة المتين ‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى رب العرش العظيم‏.‏

  الفصل الخامس عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة

قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج وهي عوارض هذه الحرفة‏.‏ وهذه الأوصاف تغض من الذكاء والمروءة وتخدج فيها لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس‏.‏ فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذكاء وأفعال الشر والسفسفة تعود بضد ذلك فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت‏.‏ وتنقص خلال الخير إن تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس شأن الملكات الناشئة عن الأفعال‏.‏ وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم‏.‏ فمن كان منهم سافل الطور مخالفاً لشرار الباعة أهل الغش والخلابة والخديعة والفجور في الأيمان على البياعات والأثمان إقراراً وإنكاراً كانت رداءة تلك الخلق عنده أشد وغلبت عليه السفسفة وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة‏.‏ وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته‏.‏ وفقدان ذلك فيهم في الجملة‏.‏ ووجود الصنف الثاني منهم الذي قدمناه في الفصل قبله أنهم يدرعون بالجاه ويعوض لهم من مباشرة ذلك فيهم نادر وأقل من النادر‏.‏ وذلك أن يكون المال قد توفر عنده دفعة بنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة وتكسبه ظهوراً وشهرة بين أهل عصره فيترفع عن مباشرة ذلك بنفسه ويدفعه إلى من يقوم له به من ولائه وحشمه‏.‏ ويسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره وإتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر‏.‏ فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن المحرجات إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ووفاقهم أو خلافهم فيما يأتون أو يذرون من ذلك إلا أنه قليل ولا يكاد يظهر أثره‏.‏ ‏"‏ والله خلقكم وما تعملون ‏"‏‏.‏

  الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم

إعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري وبكونه عملياً هو جسماني محسوس‏.‏ والأحوال الجسمانية المحسوسة نقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته‏.‏ وعلى نسبة الأصل تكون الملكة‏.‏ ونقل المعاينة أو عب وأتم من نقل الخبر والعلم‏.‏ فالملكة الحاصلة عنه أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة على الخبر‏.‏ وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته‏.‏ ثم إن الصنائع منها البسيط ومنها المركب‏.‏ والبسيط هو الذي يختص بالضروريات والمركب هو الذي يكون للكماليات‏.‏ والمتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولاً ولأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله فيكون سابقاً في التعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصاً‏.‏ ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئاً فشيئاً على التدريج حتى تكمل‏.‏ ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيما في الأمور الصناعية‏.‏ فلا بد له إذن من زمان‏.‏ ولهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل‏.‏ وتنقسم الصنائع أيضاً‏:‏ إلى ما يختص بأمر المعاش ضرورياً كان أو غير ضروري وإلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم والصنائع والسياسة‏.‏ ومن الأول الحياكة والجزارة والنجارة والحدادة وأمثالها‏.‏ ومن الثاني الوراقة وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتجليد والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثال ذلك‏.‏ ومن الثالث الجندية وأمثالها‏.‏ والله أعلم‏.‏

  الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته

والسبب في ذلك أن الناس وما لم يستوف العمران الحضري وتتمدن المدينة إنما همم في الضروري من المعاش وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها‏.‏ فإذا تمدنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عليه صرف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش‏.‏ ثم إن الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية فهو مقدم لضرورته على العلوم والصنائع وهي متأخرة عن الضروري‏.‏ وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائع للتأنق فيها حينئذ واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف والثروة‏.‏ وأما العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط خاصة المستعمل في الضروريات من نجار أو حداد أو خياط أو حائك أو جزار‏.‏ وإذا وجدت هذه بعد فلا توجد فيه كاملة ولا مستجادة‏.‏ وإنما يوجد منها بمقدار الضرورة إذ هي كلها وسائل إلى غيرها وليست مقصودة لذاتها‏.‏ إذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها فكملت بجميع متمماتها وتزايدت صنائع أخرى معها مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله من جزار ودباغ وخراز وصائغ وأمثال ذلك‏.‏ وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات ويتأنق فيها في الغاية وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها‏.‏ بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه الترف في المدينة مثل الدهان والصفار والحمامي والطباخ والسفاج والهراس ومعلم الغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك‏.‏ وقد تخرج عن الحد إذا كان العمران خارجاً عن الحد كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الإنسية ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرقص والمشي على الخيوط في الهواء ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب‏.‏ لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة‏.‏ أدام الله عمرانها بالمسلمين‏.‏ والله الحكيم العليم‏.‏

  الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع

في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها والسبب في ذلك ظاهر وهو أن هذه كلها عوائد للعمران والوأم‏.‏ والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الآمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال‏.‏ وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها‏.‏ ولهذا فإنا نجد في الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارة لما تراجع عمرانها وتناقص بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من الأمصار المستحدثة العمران ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة‏.‏ وما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكررها وهذه لم تبلغ بعد‏.‏ وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد فإنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص وتنضيد الفرش في القصور وحسن الترتيب والأوضاع في البناء وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين وإقامة الولائم والأعراس وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده‏.‏ فتجدهم أقوم عليها وأبصر بها‏.‏ وتجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصة موفورة من ذلك وحظ متميز بين جميع الأمصار‏.‏ وإن كان عمرانها قد تناقص والكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة‏.‏ وما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية وما قبلها من دولة القوط وما بعدها من دولة الطوائف وهلم جرا‏.‏ فبلغت الحضارة فيها مبلغاً لم تبلغه في قطر إلا ما ينقل عن العراق والشام ومصر أيضاً لطول آماد الدول فيها فاستحكمت فيها الصنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتنميق‏.‏ وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية حال الصبغ إذا رسخ في الثوب‏.‏ وكذا أيضاً حال تونس فيما حصل فيها من الحضارة من الدول الصنهاجية والموحدين من بعدهم وما استكمل لها في ذلك من الصنائع في سائر الأحوال وإن كان ذلك دون الأندلس‏.‏ إلا أنه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما وتردد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كل سنة‏.‏ وربما سكن أهلها هناك عصوراً فينقلون من عوائد ترفهم وحكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان‏.‏ فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناة ومن أحوال الأندلس لما أن أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السابعة‏.‏ ورسخ فيها من ذلك أحوال وإن كان عمرانها ليس بمناسب لذلك لهذا العهد‏.‏ إلا أن الصبغة إذا استحكمت فقليلاً ما تحول إلا بزوال محلها‏.‏ وكذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابن حماد أثراً باقياً من ذلك وإن كانت هذه كلها اليوم خراباً أو في حكم الخراب‏.‏ ولا يتفطن لها إلا البصير من الناس فيجد من هذه الصنائع آثاراً تدلة على ما كان بها كأثر الخط الممحو في الكتاب‏.‏ والله الخلاق العليم ‏"‏‏.‏ في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها والسبب في ذلك ظاهر وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً لأنه كسبه ومنه معاشه‏.‏ إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنفع‏.‏ وإن كانت الصناعة مطلوبة وتوجه إليها النفاق كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع فيجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم‏.‏ وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها ولا يوجه قصد إلى تعلمها فاختصت بالترك وفقدت للإهمال‏.‏ ولهذا يقال عن علي رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ قيمة كل امرء ما يحسن ‏"‏‏.‏ بمعنى أن صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الذي هو معاشه‏.‏ وأيضاً فهنا سر آخر وهو أن الصنائع وإجادتها إنما تطلبها الدولة فهي التي تنفق سوقها وتوجه الطلبات إليها‏.‏ وما لم تطلبه الدولة وإنما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأن الدولة هي السوق الأعظم وفيها نفاق كل شيء والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة‏.‏ فما نفق فيها كان أكثرياً ضرورة‏.‏ والسوقة وإن طلبوا الصناعة فليس طلبهم بعام ولا سوقهم بنافقة‏.‏ والله سبحانه وتعالى قادر

  الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع

وذلك لما بيناه من أن الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها‏.‏ فإذا ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقلة ساكنه تناقص فيه الترف ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف‏.‏ لأن صاحبها حينئذ لا يصح له بها معاشه فيفر إلى غيرها أو يموت ولا يكون خلف منه فيذهب رسم تلك الصنائع جملة كما يذهب النقاشون والصواغون والكتاب والنساخ وأمثالهم من الصناع لحاجات الترف‏.‏ ولا تزال الصناعات في التناقص ما زال المصر في التناقص إلى أن تضمحل‏.‏ والله الخلاق العليم سبحانه وتعالى‏.‏

  الفصل الحادي والعشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع

والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها‏.‏ والعجم من أهل المشرق وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها لأنهم أعرق في العمران الحضري وأبعد عن البحر وعمرانه‏.‏ حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحش في القفر والإعراق في البدو مفقودة لديهم بالجملة ومفقودة مراعيها والرمال المهيئة لنتاجها‏.‏ ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة حتى تجلب إليه من قطر آخر‏.‏ وانظر بلاد العجم من الصين والهند وأرض الترك وأمم النصرانية كيف استكثرت فيهم الصنائع واستجلبها الأمم من عندهم‏.‏ وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين‏.‏ ويشهد لك بذلك قلة الأمصار بقطرهم كما قدمناه‏.‏ فالصنائع بالمغرب لذلك قليلة وغير مستحكمة إلا ما كان من صناعة الصوف في نسجه والجلد في خرزه ودبغه‏.‏ فإنهم لما استحضروا بلغوا فيها المبالغ لعموم البلوى بها وكون هذين أغلب السلع في قطرهم لما هم عليه من حال البداوة‏.‏ وأما المشرق فقد رسخت الصنائع فيه منذ تلك الأمم الأقدمين من الفرس والنبط والقبط وبني إسرائيل ويونان والروم أحقاباً متطاولة فرسخت فيهم أحوال الحضارة ومن جملتها الصنائع كما قدمناه فلم يمح رسمها‏.‏ وأما اليمن والبحرين وعمان والجزيرة وإن ملكه العرب إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرة منهم واختطوا أمصاره ومدنه وبلغوا الغاية في الحضارة والترف‏.‏ مثل عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم والتبابعة والأذواء فطال أمد الملك والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفرت الصنائع ورسخت فلم تبل ببلى الدولة كما قدناه‏.‏ فبقيت مستجدة حتى الآن‏.‏ واختصت بذلك للوطن كصناعة الوشي والعصب وما يستجاد من حوك الثياب والحرير فيها‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

  الفصل الثاني والعشرون في أن من حصلت له ملكة في صناعة

فقل أن يجيد بعدها ملكة في أخرى ومثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها ورسخت في نفسه فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة أو البناء إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها‏.‏ والسبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس وألوان فلا تزدحم دفعة‏.‏ ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعداداً لحصولها‏.‏ فإذا تلونت النفس بالملكة الآخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف‏.‏ وهذا بين يشهد له الوجود‏.‏ فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثم يحكم من بعدها أخرى ويكون فيهما معاً على رتبة واحدة من الإجادة‏.‏ حتى إن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة‏.‏ ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته بل يكون مقصراً فيه إن طلبه إلا في الأقل النادر من الأحوال‏.‏ ومبني سببه على ما ذكرناه من الاستعداد وتلوينه بلون الملكة الحاصلة في النفس‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه‏.‏

  الفصل الثالث والعشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع

اعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران‏.‏ فهي بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد‏.‏ إلا أن منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضوع فنخصها بالذكر ونترك ما سواها‏:‏ فأما الضروري فكالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة وأما الشريفة بالموضوع فكالتوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب‏.‏ فأما التوليد فإنها ضرورية في العمران وعامة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود ويتم غالباً‏.‏ وموضوعها مع ذلك المولودون وأمهاتهم‏.‏ وأما الطب فهو حفظ الصحة للإنسان ودفع المرض عنه ويتفرع عن علم الطبيعة وموضوعه مع ذلك بدن الإنسان‏.‏ وأما الكتابة وما يتبعها من الوراقة فهي حافظة على الإنسان حاجته ومقيمة لها عن النسيان ومبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب ومخلدة نتائح الأفكار والعلوم في الصحف ورافعة رتب الوجود للمعاني‏.‏ وأما الغناء فهو نسب الأصوات ومظهر جمالها للأسماع‏.‏ وكل هذه الصنائع الثلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم ومجالس أنسهم فلها بذلك شرف ليس لغيرها‏.‏ وما سوى ذلك من الصنائع فتابعة وممتهنة في الغالب‏.‏ وقد يختلف ذلك باختلاف الأغراض والدواعي‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏

  الفصل الرابع والعشرون في صناعة الفلاحة

هذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقوات والحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها وازدراعها وعلاج نباتها وتعهده بالسقي والتنمية إلى بلوغ غايته ثم حصاد سنبله واستخراج حبه من غلافه وإحكام الأعمال لذلك وتحصيل أسبابه ودواعيه‏.‏ وهي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً إذ يمكن وجوده من دون جميع الأشياء إلا من دون القوت‏.‏ ولهذا اختصت هذه الصناعة بالبدو‏.‏ إذ قدمنا أنه أقدم من الحضر وسابق عليه فكانت هذه الصناعة لذلك بدوية لا يقوم عليها الحضر ولا يعرفونها لأن أحوالهم كلها ثانية عن البداوة فصنائعهم ثانية عن صنائعها وتابعة لها‏.‏ والله سبحانه وتعالى مقيم العباد فيما أراد‏.‏

  الفصل الخامس والعشرون في صناعة البناء

هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري وأقدمها وهي معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل للكن والمأوى للأبدان في المدن‏.‏ وذلك أن الإنسان لما جبل عليه من الفكر في عواقب أحواله لا بد له أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر والبرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف والحيطان من سائر جهاتها‏.‏ والبشر مختلفون في هذه الجبلة الفكرية التي هي معنى الإنسانية فالمقيدون فيها ولو على التفاوت يتخذون ذلك باعتدال كأهل الإقليم الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس و أما أهل البدو فيبعدون عن اتخاذ ذلك لقصور أفكارهم عن إدراك الصنائع البشرية فيبادرون للغيران والكهوف المعدة من غير علاج‏.‏ ثم المعتدلون والمتخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون فتكثر بيوتهم في البسيط الواحد بحيث يتناكرون ولا يتعارفون فيخشى من طروق بعضهم بعضاً بياتاً فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة سياج الأسوار التي تحوطهم‏.‏ ويصير جميعها مدينة واحدة ومصراً واحداً يحوطهم فيها الحكام بدفاع بعضهم عن بعض‏.‏ وقد يحتاجون إلى الاعتصام من العدو ويتخذون المعاقل والحصون لهم ولمن تحت أيديهم‏.‏ وهؤلاء مثل الملوك ومن في معناهم من الأمراء وكبار القبائل‏.‏ ثم يختلف أحوال البناء في المدن كل مدينة على ما يتعارفون ويصطلحون عليه ويناسب مزاج أهوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر‏.‏ وكذا حال أهل المدينة الواحدة‏.‏ فمنهم من يتخذ القصور والمصانع العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدور والبيوت والغرف الكبيرة لكثرة ولده وحشمه وعياله وتابعه ويؤسس جدرانها بالحجارة ويلحم بينها بالكلس ويعالي عليها بالأصبغة والجص ويبالغ في كل ذلك بالتنجيد والتنميق إظهاراً للبسطة بالعناية في شأن المأوى‏.‏ ويهيىء مع ذلك الأسراب والمطامير لاختزان أقواته والاصطبلات لربط مقرباته إذا كان من أهل الجنود وكثرة التاج والحاشية كالأمراء ومن في معناهم‏.‏ ومنهم من يبني الدويرة والبيوت لنفسه وسكنه وولده لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه واقتصاره على الكن الطبيعي للبشر‏.‏ وبين ذلك مراتب غير منحصرة‏.‏ وقد يحتاج لهذه الصناعة أيضاً عند تأسيس الملوك وأهل الدول المدن العظيمة والهياكل المرتفعة ويبالغون في إتقان الأوضاع وعلو الأجرام مع الإحكام لتبلغ الصناعة مبالغها‏.‏ وهذه الصناعة هي التي تحصل الدواعي لذلك كله‏.‏ وأكثر ما تكون هذه الصناعة في الأقاليم المعتدلة من الرابع وما حواليه إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها‏.‏ وإنما يتخذون البيوت حظائر من القصب والطين أو يأوون إلى الكهوف والغيران‏.‏ وأهل هذه الصناعة القائمون عليها متفاوتون‏:‏ فمنهم البصير الماهر ومنهم القاصر‏.‏ ثم هي تتنوع أنواعاً كثيرة‏:‏ فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقاً بعضها إلى بعض بالطين والكلس الذي يعقد معها فيلتحم كأنها جسم واحد ومنها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطان بأن يتخذ لها لوحان من الخشب مقدران طولاً وعرضاً باختلاف العادات في التقدير‏.‏ وأوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس وقد بوعد ما بينهما على ما يراه صاحب البناء في عرض الأساس ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدل‏.‏ ويسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثم يوضع فيه التراب مختلطاً بالكلس ويركز بالمراكز المعدة لذلك حتى ينعم ركزه ويختلط أجزاؤه بالكلس ثم يزاد التراب ثانياً وثالثاً إلى أن يمتلىء ذلك الخلاء بين اللوحين وقد تداخلت أجزاء الكلس والتراب وصارت جسماً واحداً‏.‏ ثم يعاد نصب اللوحين على الصورة الأولى ويركز كذلك إلى أن يتم وتنتظم الألواح كلها سطراً فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحماً كأنه قطعة واحدة ويسمى الطابية وصانعه الطواب‏.‏ ومن صنائع البناء أيضاً أن تجلل الحيطان بالكلس بعد أن يحل بالماء ويخمر أسبوعاً أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للألحام‏.‏ فإذا تم له ما يرضاه من ذلك عالاه من فوق الحائط وذلك إلى أن يلتحم‏.‏ ومن صنائع البناء عمل السقف بأن تمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت ومن فوقها الألواح كذلك موصولة بالدساتر ويصب عليها التراب والكلس ويبلط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها وتلتحم ويعالى عليها الكلس كما عولي على الحائط‏.‏ ومن صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق والتزيين كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يخمر بالماء ثم يرجع جسداً وفيه بقية البلل فيشكل على التناسب تخريماً بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق ورواء‏.‏ وربما عولي على الحيطان بقطع الرخام أو الآجر أو الخزف أو بالصدف أو السبج يفصل أجزاء متجانسة أو مختلفة وتوضع في الكلس على نسب وأوضاع مقدرة عندهم يبدو به الحائط للعيان كأنه قطع الرياض المنمنمة‏.‏ إلى غير ذلك من بناء الجباب والصهاريج لسيح الماء بعد أن تعد في البيوت قصاع الرخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصهريج يجلب إليها من خارج في القنوات المفضية به إلى البيوت‏.‏ وتختلف الصناع في جميع ذلك لاختلاف الحذق والبصر ويعظم عمران المدينة ويتسع فيكثرون وربما يرجع الحكام إلى نظر هؤلاء فيماهم أبصر به من أحوال البناء‏.‏ وذلك أن الناس في المدن الكثيرة الازدحام والعمران يتشاحون حتى في الفضاء والهواء للأعلى والأسفل في الانتفاع بظاهر البناء مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان‏.‏ فيمنع جاره من ذلك إلا ما كان له فيه حق‏.‏ ويختلفون أيضاً في استحقاق الطرق والمنافذ للمياه الجارية والفضلات المسربة في القنوات‏.‏ وربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناته لتضايق الجوار أو يدعي بعضهم على جاره اعتلال حائطه وخشية سقوطه ويحتاج إلى الحكم عليه بهدمه ودفع ضرره عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرصة بين شريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدار ولاإهمال لمنفعتها‏.‏ وأمثال ذلك ويخفى جميع ذلك إلا على أهل البصر بالبناء العارفين بأحواله المستدلين عليها بالمعاقد والقمط ومراكز الخشب وميل الحيطان واعتدالها وقسم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت والحيطان وغير ذلك‏.‏ فلهم بهذا كله البصر والخبرة التي ليست لغيرهم‏.‏ وهم مع ذلك يختلفون بالجودة والقصور في الأجيال باعتبار الدول وقوتها‏.‏ فإنا قدمنا أن الصنائع وكمالها إنما هو بكمال الحضارة وكثرتها بكثرة الطالب لها‏.‏ فلذلك عندما تكون الدولة بدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها‏.‏ كما وقع للوليد بن عبد الملك حين أجمع على بناء مسجد المدينة والقدس ومسجده بالشام فبعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناءة فبعث إليه منهم من حصل له غرضه من تلك المساجد‏.‏ وقد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الارتفاع وأمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله‏.‏ وكذلك في جر الأثقال بالهندام فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة تعجز قدر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفاً وتسمى آلة لذلك بالمخال فيتم المراد من ذلك بغير كلفة‏.‏ وهذا إنما يتم بأصول هندسية معروفة متداولة بين البشر‏.‏ وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب الناس أنها من بناء الجاهلية‏.‏ وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني وليس كذلك وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه‏.‏ فتفهم ذلك‏.‏ والله يخلق ما يشاء سبحانه‏.‏